مواصلة لـ<<ليلة من عــمر الزمــان<<
صباحٌ بعد الاعصار :
استيقظت في الصباح على صوت الشيخ الهرم و هو يمد لي كأساً من حليب الماعز و يقول:قم يا بني قد أشرقت الشمس.
قمت و غسلت وجهي و تناولت الحليب و أنا أبحلق في منزل هذا الشيخ الهرم كان كبيراً واسعاً لا يشاركه أحد سوى تلك العنيزات و بعض الحمام و الكلب المستلقي على الأرض.
ما زال شعور الخجل يتملكني و لا أستطيع أن أنظر في وجهه أو التحدث معه؛لكنه قضى على ما بنفسي و ابتدرني الحديث قائلاً:أتمنى أن تكون قد ارتحت في النوم ليلة أمس،لقد كان التعب و الإعياء بادياً عليك،أظن أنك جئت من مكان بعيد و لا تسكن بجوار هذا الشلال و هذه الغابات.
- قلت له:صدقت؛لقد جئت أبحث عن رجل من بقايا أسرة حسان الحكيم؛قالواْ لي أنه يسكن في القرى المجاورة للغابة؛هل تعرفه يا عم؟
- قال: أنت أيضاً تصدق أسطورة حفيد حسان الحكيم؛لقد جاء إلى هنا أناس كثيرون يبحثون عنه ؛لكنهم ماتواْ في هذه الغابات،من الأفضل لك أن تعود إلى بيتك.
ثم دار الحديث حول العواصف التي تهب هذه الأيام و حكى لي عن عدد من القرى هجرت بسبب فيضان النهر أسفل الشلال و عن الناس الذين ماتواْ و البهائم التي نفقت.
كنت أحس و أنا أكلم هذا الشيخ بالحكمة تنساب من بين شفتيه خلسة و هو يحاول حبسها خلف لسانه و كأنه يخبئ كنزاً يضن به على الناس و يتظاهر أنه رجل خرفٌ –كما حسبته ليلة أمس- ؛ متخذاً من قول الشاعر:
لما رأيت الجهل في الناس فاشياً ****تجاهلت حتى ظن أني جاهل
شعاراً ؛ كنت أحدق في عينيه السوداويتين و لحيته البيضاء الطويلة التي تداعب صدره مع نسمات الريح الباردة التي تنساب من الشلال في منظر بديع،ترى تجاعيد وجهه التي تشبه تصدعات الجبل الشامخ الذي يتدفق منه الشلال أو موجات النهر المتدافعة من الشلال.
كان يحدثني عن الأيام الخوالي التي كان يملك فيها أسرة كبيرة و مواشي كثيرة ورثها عن أجداده و نماها بذكائه؛قلت له أين ذهبت؟
- قال إنهم اللصوص سرقواْ المواشي و قتلواْ الأبناء.
آه اللصوص؛هل يوجد مكان في الدنيا يخلو من اللصوص الذين لا أقول يسرقون منك المال بل و لا الأحباب إنما الذين يتسللون إليك بخبث و دهاء فيسرقون منك أجمل اللحظات و أحلى الأوقات بعضهم يسرق منك قلبك تجده يتسلل بمكر عجيب و بلفظ أديب حتى يتمكن من القلب فيتمكن منك كلياً ثم يوجه ضربته القاضية القاصمة فيكسر ظهرك و قبله يكسر إرادتك و حياتك و كبريائك و مشاعرك فيحولك إما لإنسان فاشل حاقد على المجتمع ترى الجميل قبيحاً و الطيب خبيثاً و الحسن سوءاً و هذا مقصد اللصوص الأشرار فتمتد يدك بالإفساد للحياة و الأرض التي خلقت لتعمرها { إني جاعل في الأرض خليفة؛قالواْ أتجعل فيها من يفسد فيها و يسفك الدماء} فتتحول حياتك-الخاصة بك- في البدء جحيماً ما يلبث أن يعم الدنيا فتكون وبالاً و سوءاً و شراً على أمك الأرض و محبوبتك الحياة فيبغضك الناس؛لن تجد من ينظر إليك نظرة شفق و حب و تحسر على ذلك الإنسان الوديع و الشخص الرائع الذي يغمر الدنيا بالدلال و الإجلال ينسم في وجه الصغير و يجل الكبير يحمل المحتاج يزرع الزهور و يمحو أثر الأشواك و وخز الإبر و الآلام لكن تكون النسمة الشافية و التربيتة الحانية و البسمة الراضية.
سينظرون إليك ذلك الشبح المخيف و الوحش القبيح و المفسد المقيد حتتحول الابتسامة إلى رغبة في الانتقام سيتحول ذلك الثغر الباسم إلى حجر جاثم لن يلبث طويلاً حتى يخلع؛سيلفظك من كان بالأمس يقربك و ينأ عنك من كان يسعى إليك سيبغضك من كنت تحبه و يمقتك من كان يتودد إليك سيشتمك و يسيء إليك من كان يتملقك.
هكذا سيقلب اللصوص حياتك؛أو سيحولونك إلى مجنون هائم لا يعي بما يهذي و عندها لن تكون الحال أفضل من سابقها ربما ستجد بعض العطف و الحنان ؛لكن نظرة النفور لن تفارق محياك ما أن تطل بوجهك الذي كان جاذباً فيما مضى و اليوم أصبح منفراً.
استطردت في بث ما يعتمل في صدري للشيخ المسن و ابث همي إليه.
و استوقفني بحكمة من عركته الحياة و طحنته صروف الزمان نسيت أسوأ اللصوص يا بني؛و قال:لماذا الكل ينساهم أو يحاول أن يتناساهم؟
قاطعته:من تقصد بأسوأ اللصوص يا عم؟
قال-و الأسى يتملك كيانه-: هم يا بني من يقتاتون على عرق و دم الأتباع؛الذين يسوسون الناس و يستعبدونهم من ملئواْ خزائنهم من مكتسبات و جهود العمال البسطاء و ملئواْ بطونهم من محاصيل الفلاحين الضعفاء و تدثرواْ و لبسواْ أرقى الثياب التي صنعها النساجون الأوفياء ثم لم يكن حظهم إلا ما تساقط من صرر الدراهم و الدنانير من خزائن الأغنياء و ترفعواْ عن الانحناء إلى الأرض ليأخذواْ ما سقط سهواً ليتلقفه العمال البسطاء و ما سقط من أطايب الطعام من على موائد "الشرفاء" أو بقيا فضلات الأواني الملئى بالطعام المرصعة بالياقوت و اللؤلؤ و المرجان هذه الفضلات التي تلقى على القمامة و التي لم يشأ "السادة" أن يحنواْ رؤوسهم ليحملواْ الطعام و يمسحواْ ما علق من التراب فتعالواْ على نعمة المنان كان مصيرها أن يتلقفها الشراه الفلاحون الجياع ليسدواْ بها رمق ما يحفظهم أحياء حتى يظلواْ لخدمة السيد أوفياء و لنعمه السابقة عليهم أمناء و كذلك ما رث من ثياب السادة النبلاء أو ما اتسحق ببسيط النجاس و أنف السادة أن يفركوه و أبواْ أن يلبسواْ ما غسله العبيد من دنسهم الحقير مع أن العبيد يفرحون و يتيهون فخراً به فكان مصيره الطرح و الإلقاء ليتصارع عليه العبيد و الإماء و السعيد من حظي بلباس السيد المجيد.
إن هؤلاء أسوأ و شرار الخلق كم تعب العبيد على راحتهم و سهرواْ عليها و تفانواْ في خدمتهم ثم لم يكن جزاءهم إلا الضرب و السب و الشتم و التنكيل؛كم قتلواْ من العبيد الذين عجزواْ عن القيام بخدمة السيد مع أنهم قد خدموه طوال ستين عاماً لم يراعي السيد فيهم حقاً و لم يحفظ لهم معروفاً.
كم من القصور بنى العبيد لسيدهم ثم كان الجزاء جزاء سنمار.
و لو تدري يا بني معاناة يوم خدمة السيد لفضلت الموت بألف مرة على أن تبقى في خدمة السيد يوماً واحداً.
السيد الإقطاعي يا بني أشبه ببعوضة حقيرة تقتات على دمك و تجلب لك الأمراض بإمكانك أن تقتلها و ترتاح منها؛لكن آخرون يفضلون أن تظل البعوضة تقتات على دماءهم على أن يحرك يده ليهشها .
هذه ضريبة الذل و كلما تمادى العبد في التذلل لسيده تمادى السيد في إنهاك قوى العبد،فيأتي ذات صباح يسح فيه السيد أن العبد صار بلا قيمة فيرمي به كما تترك و تنفر البعوضة ممن لا تجد ضالتها فيه.
صباحٌ بعد الاعصار :
استيقظت في الصباح على صوت الشيخ الهرم و هو يمد لي كأساً من حليب الماعز و يقول:قم يا بني قد أشرقت الشمس.
قمت و غسلت وجهي و تناولت الحليب و أنا أبحلق في منزل هذا الشيخ الهرم كان كبيراً واسعاً لا يشاركه أحد سوى تلك العنيزات و بعض الحمام و الكلب المستلقي على الأرض.
ما زال شعور الخجل يتملكني و لا أستطيع أن أنظر في وجهه أو التحدث معه؛لكنه قضى على ما بنفسي و ابتدرني الحديث قائلاً:أتمنى أن تكون قد ارتحت في النوم ليلة أمس،لقد كان التعب و الإعياء بادياً عليك،أظن أنك جئت من مكان بعيد و لا تسكن بجوار هذا الشلال و هذه الغابات.
- قلت له:صدقت؛لقد جئت أبحث عن رجل من بقايا أسرة حسان الحكيم؛قالواْ لي أنه يسكن في القرى المجاورة للغابة؛هل تعرفه يا عم؟
- قال: أنت أيضاً تصدق أسطورة حفيد حسان الحكيم؛لقد جاء إلى هنا أناس كثيرون يبحثون عنه ؛لكنهم ماتواْ في هذه الغابات،من الأفضل لك أن تعود إلى بيتك.
ثم دار الحديث حول العواصف التي تهب هذه الأيام و حكى لي عن عدد من القرى هجرت بسبب فيضان النهر أسفل الشلال و عن الناس الذين ماتواْ و البهائم التي نفقت.
كنت أحس و أنا أكلم هذا الشيخ بالحكمة تنساب من بين شفتيه خلسة و هو يحاول حبسها خلف لسانه و كأنه يخبئ كنزاً يضن به على الناس و يتظاهر أنه رجل خرفٌ –كما حسبته ليلة أمس- ؛ متخذاً من قول الشاعر:
لما رأيت الجهل في الناس فاشياً ****تجاهلت حتى ظن أني جاهل
شعاراً ؛ كنت أحدق في عينيه السوداويتين و لحيته البيضاء الطويلة التي تداعب صدره مع نسمات الريح الباردة التي تنساب من الشلال في منظر بديع،ترى تجاعيد وجهه التي تشبه تصدعات الجبل الشامخ الذي يتدفق منه الشلال أو موجات النهر المتدافعة من الشلال.
كان يحدثني عن الأيام الخوالي التي كان يملك فيها أسرة كبيرة و مواشي كثيرة ورثها عن أجداده و نماها بذكائه؛قلت له أين ذهبت؟
- قال إنهم اللصوص سرقواْ المواشي و قتلواْ الأبناء.
آه اللصوص؛هل يوجد مكان في الدنيا يخلو من اللصوص الذين لا أقول يسرقون منك المال بل و لا الأحباب إنما الذين يتسللون إليك بخبث و دهاء فيسرقون منك أجمل اللحظات و أحلى الأوقات بعضهم يسرق منك قلبك تجده يتسلل بمكر عجيب و بلفظ أديب حتى يتمكن من القلب فيتمكن منك كلياً ثم يوجه ضربته القاضية القاصمة فيكسر ظهرك و قبله يكسر إرادتك و حياتك و كبريائك و مشاعرك فيحولك إما لإنسان فاشل حاقد على المجتمع ترى الجميل قبيحاً و الطيب خبيثاً و الحسن سوءاً و هذا مقصد اللصوص الأشرار فتمتد يدك بالإفساد للحياة و الأرض التي خلقت لتعمرها { إني جاعل في الأرض خليفة؛قالواْ أتجعل فيها من يفسد فيها و يسفك الدماء} فتتحول حياتك-الخاصة بك- في البدء جحيماً ما يلبث أن يعم الدنيا فتكون وبالاً و سوءاً و شراً على أمك الأرض و محبوبتك الحياة فيبغضك الناس؛لن تجد من ينظر إليك نظرة شفق و حب و تحسر على ذلك الإنسان الوديع و الشخص الرائع الذي يغمر الدنيا بالدلال و الإجلال ينسم في وجه الصغير و يجل الكبير يحمل المحتاج يزرع الزهور و يمحو أثر الأشواك و وخز الإبر و الآلام لكن تكون النسمة الشافية و التربيتة الحانية و البسمة الراضية.
سينظرون إليك ذلك الشبح المخيف و الوحش القبيح و المفسد المقيد حتتحول الابتسامة إلى رغبة في الانتقام سيتحول ذلك الثغر الباسم إلى حجر جاثم لن يلبث طويلاً حتى يخلع؛سيلفظك من كان بالأمس يقربك و ينأ عنك من كان يسعى إليك سيبغضك من كنت تحبه و يمقتك من كان يتودد إليك سيشتمك و يسيء إليك من كان يتملقك.
هكذا سيقلب اللصوص حياتك؛أو سيحولونك إلى مجنون هائم لا يعي بما يهذي و عندها لن تكون الحال أفضل من سابقها ربما ستجد بعض العطف و الحنان ؛لكن نظرة النفور لن تفارق محياك ما أن تطل بوجهك الذي كان جاذباً فيما مضى و اليوم أصبح منفراً.
استطردت في بث ما يعتمل في صدري للشيخ المسن و ابث همي إليه.
و استوقفني بحكمة من عركته الحياة و طحنته صروف الزمان نسيت أسوأ اللصوص يا بني؛و قال:لماذا الكل ينساهم أو يحاول أن يتناساهم؟
قاطعته:من تقصد بأسوأ اللصوص يا عم؟
قال-و الأسى يتملك كيانه-: هم يا بني من يقتاتون على عرق و دم الأتباع؛الذين يسوسون الناس و يستعبدونهم من ملئواْ خزائنهم من مكتسبات و جهود العمال البسطاء و ملئواْ بطونهم من محاصيل الفلاحين الضعفاء و تدثرواْ و لبسواْ أرقى الثياب التي صنعها النساجون الأوفياء ثم لم يكن حظهم إلا ما تساقط من صرر الدراهم و الدنانير من خزائن الأغنياء و ترفعواْ عن الانحناء إلى الأرض ليأخذواْ ما سقط سهواً ليتلقفه العمال البسطاء و ما سقط من أطايب الطعام من على موائد "الشرفاء" أو بقيا فضلات الأواني الملئى بالطعام المرصعة بالياقوت و اللؤلؤ و المرجان هذه الفضلات التي تلقى على القمامة و التي لم يشأ "السادة" أن يحنواْ رؤوسهم ليحملواْ الطعام و يمسحواْ ما علق من التراب فتعالواْ على نعمة المنان كان مصيرها أن يتلقفها الشراه الفلاحون الجياع ليسدواْ بها رمق ما يحفظهم أحياء حتى يظلواْ لخدمة السيد أوفياء و لنعمه السابقة عليهم أمناء و كذلك ما رث من ثياب السادة النبلاء أو ما اتسحق ببسيط النجاس و أنف السادة أن يفركوه و أبواْ أن يلبسواْ ما غسله العبيد من دنسهم الحقير مع أن العبيد يفرحون و يتيهون فخراً به فكان مصيره الطرح و الإلقاء ليتصارع عليه العبيد و الإماء و السعيد من حظي بلباس السيد المجيد.
إن هؤلاء أسوأ و شرار الخلق كم تعب العبيد على راحتهم و سهرواْ عليها و تفانواْ في خدمتهم ثم لم يكن جزاءهم إلا الضرب و السب و الشتم و التنكيل؛كم قتلواْ من العبيد الذين عجزواْ عن القيام بخدمة السيد مع أنهم قد خدموه طوال ستين عاماً لم يراعي السيد فيهم حقاً و لم يحفظ لهم معروفاً.
كم من القصور بنى العبيد لسيدهم ثم كان الجزاء جزاء سنمار.
و لو تدري يا بني معاناة يوم خدمة السيد لفضلت الموت بألف مرة على أن تبقى في خدمة السيد يوماً واحداً.
السيد الإقطاعي يا بني أشبه ببعوضة حقيرة تقتات على دمك و تجلب لك الأمراض بإمكانك أن تقتلها و ترتاح منها؛لكن آخرون يفضلون أن تظل البعوضة تقتات على دماءهم على أن يحرك يده ليهشها .
هذه ضريبة الذل و كلما تمادى العبد في التذلل لسيده تمادى السيد في إنهاك قوى العبد،فيأتي ذات صباح يسح فيه السيد أن العبد صار بلا قيمة فيرمي به كما تترك و تنفر البعوضة ممن لا تجد ضالتها فيه.